أحدث الهجوم الذي نفذته حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة يوم 7 أكتوبر 2023 زلزالاً كبيراً في إقليم الشرق الأوسط، ومثل فرصة سانحة بشكل واسع لانخراط مجموعة من الفواعل من دون الدول والفصائل المسلحة في الإقليم وعلى رأسها حزب الله في لبنان في حرب شاملة متعددة الجبهات على إسرائيل، استثماراً لما أعدت له هذه الفصائل طيلة سنوات، إلا أن تطورات العملية واستجابة حزب الله لها على وجه التحديد قد أظهرت تلكؤاً من الحزب في الانخراط الفعلي والحقيقي في هذه الحرب، بما يطرح تساؤلات حول حسابات الحزب فيما يتعلق بالحرب الجارية بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
سياق محفز:
إن الهجوم الذي شنته حركة حماس وما كشفه من ضعف إسرائيلي على المستويات العسكرية والاستخبارية والأمنية شكل بكل أبعاده المتشابكة وما يزال سياقاً محفزاً للغاية لكي ينضم حزب الله إلى الحرب، وذلك في ضوء سببين أساسيين:
1. استعداد عملياتي: شهدت الأشهر القليلة الأخيرة التي سبقت هجوم 7 أكتوبر 2023 استعداداً عملياتياً كبيراً من جانب حزب الله لأي مواجهة قد تنشب مع إسرائيل في أي وقت، وهو الأمر الذي حرص الحزب على إظهاره من خلال مجموعة واسعة من المظاهر لعل أبرزها الاستعراض العسكري الذي نظمه في 21 مايو 2023 قبل أيام من ذكرى عيد المقاومة والتحرير، والذي استعرض فيه قدراته العسكرية بشكل واسع وقدم فيه محاكاة لاقتحام الشريط الحدودي مع إسرائيل وتنفيذ هجمات داخل العمق الإسرائيلي على نحو مشابه لما تم في 7 أكتوبر من جانب حركة حماس. فضلاً عن أن هذه الأشهر نفسها قد شهدت تزايداً في التوترات بين حزب الله وإسرائيل بشكل كبير جراء مجموعة من الحوادث من أهمها تثبيت حزب الله خيمتين في إحدى بلدات مزارع شبعا، ونشره قوات نخبوية على طول الشريط الحدودي مع إسرائيل.
2. فرصة سانحة: تعطي المعطيات السابق ذكرها نتيجة مفادها جاهزية حزب الله للانخراط السريع في هذه الحرب وخاصة في الساعات الأولى للهجوم والتي فقدت خلالها إسرائيل توازنها على كافة المستويات وأصابها فيها الشلل، وعمت خلالها الفوضى صفوف الجيش الإسرائيلي، والتي تمثل فرصة سانحة لكي يشن حزب الله هجوماً من الجبهة الشمالية من خلال تسلل بعض مجموعاته إلى المستوطنات المحاذية للحدود أو من خلال الإسناد بمئات الصواريخ والطائرات المسيرة قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى التي يملكها الحزب بقدرات تفوق بكثير ما تمتلكه الفصائل الفلسطينية، الأمر الذي كان يعني شن حرب متعددة الجبهات لطالما عملت وأكدت الفصائل الموالية لإيران في لبنان والعراق واليمن وسوريا الاستعداد لها.
حسابات معقدة:
تفرض مجموعة من الحسابات المعقدة المرتبطة بإيران من جانب والخاصة بحزب الله وحده دوناً عن بقية الفصائل والجماعات الموالية لطهران في المنطقة من جانب آخر نفسها بشكل واضح على آلية صنع القرار داخل حزب الله وتجعله يؤجل حتى الآن انخراطه الفعلي في الحرب على إسرائيل والاكتفاء بما يمكن تسميته بالانخراط المنضبط والمحسوب في المواجهة مع إسرائيل، وذلك كما يلي:
1. الداخل اللبناني: يواجه لبنان أزمة حادة على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية منذ سنوات، ويؤدي حزب الله دوراً محورياً في المشهد الذي أدى إلى هذه الأزمات من جهة، والذي يدير هذه الأزمات كلها من جهة أخرى، ولذلك يمثل الداخل اللبناني عاملاً مهماً من العوامل الحاكمة للقرار العسكري لحزب الله. وذلك في إطار مجموعة من المحددات: أولها أن انخراط حزب الله في هذه الحرب سيرتب لا محالة رداً إسرائيلياً على أقل تقدير من شأنه أن يكلف لبنان واللبنانيين الكثير مثلما أكد المسؤولون الإسرائيليون أكثر من مرة، وهو أمر سيكلف حزب الله على وجه الخصوص الكثير فيما يتعلق بشعبيته في الداخل اللبناني، ولاسيّما وأن اللبنانيين ما زالت عالقة في أذهانهم التكلفة المباشرة وغير المباشرة لحرب 2006 والتي استمرت نحو 34 يوماً، وذلك على المستويات البشرية والسياسية والاجتماعية والخسائر الاقتصادية التي قدرت بنحو 7 مليارات دولار، وهي الخسائر ذاتها التي قال عنها الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله إنه لو كان يعلمها لما أقدم على عملية خطف الجنديين الإسرائيليين التي كانت سبباً وراء الحرب.
أما المحدد الثاني فهو أن حزب الله منذ حرب 2006 ثم انخراطه في حرب سوريا عام 2013 يحرص على أن يروج رواية أنه فصيل لبناني في المقام الأول قبل أن يكون وكيلاً لإيران، وأنه يعمل لخدمة المصالح اللبنانية وأن سلاحه هو سلاح مقاومة للدفاع عن لبنان وليس بما يضر اللبنانيين وقد استخدمه بالفعل ولو على سبيل التهديد والتلويح لخدمة هذه المصالح وأدى دوراً مؤثراً وحيوياً في الجهود التي أفضت إلى ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وثالث المحددات هو أن الأزمة الاقتصادية التي يواجهها لبنان قد كبدت الحزب بالفعل خسائر في شعبيته وخاصة بعد انفجار مرفأ بيروت، وقد ينتج عن انخراطه في هذه الحرب ما يمكن تسميته بفقدان الشرعية داخل لبنان، علاوة على تزايد المعارضة الداخلية ضده والتي تحدثت مراراً عن سلاح حزب الله.
2. استثمار المواجهة: قد يرى حزب الله في المواجهة الدائرة بين الفصائل الفلسطينية وإسرائيل فرصة من شأنه استثمارها لتضاف إلى رصيده الذي راكمه خلال الأشهر الأخيرة فيما يتعلق بالمواجهة مع إسرائيل لتحقيق هدفه في المرحلة الحالية وهو التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البرية مع إسرائيل، وهو الهدف الذي كانت من أجله كل التحركات العسكرية على الحدود خلال الأشهر الماضية. ولذلك يلاحظ أن مشاركة حزب الله في المواجهة الحالية مقتصرة على نطاق الشريط الحدودي والخط الأزرق الذي رسمته نهاية حرب 2006، فحول هذه المنطقة تتزايد العمليات التي ينفذها الحزب لمواجهة القوات الإسرائيلية أو استهداف هذه المناطق من خلال الصواريخ والمسيرات، بما يخدم هذا الهدف ما بعد الحرب بالتأكيد أن التوصل إلى اتفاق لترسيم هذه الحدود سيُعد ضمانة للاستقرار وهو أمر قد تشجعه الولايات المتحدة.
3. مخاوف التدمير: استغلت إسرائيل هجوم 7 أكتوبر لجر الولايات المتحدة إلى خندق أشبه بالدفاع المشترك بين البلدين في مواجهة التحدي الحالي، فعززت الولايات المتحدة حضورها العسكري بالمنطقة من خلال نشر مجموعتي حاملتي الطائرات فورد وأيزنهاور وتعزيز الدفاعات الجوية في قواعدها بالمنطقة ونشر قوات خاصة ومستشارين عسكريين لمساعدة إسرائيل في إدارة المعركة، فضلاً عن إمداد إسرائيل بكل الأسلحة والذخائر اللازمة للمعركة. وهي كلها رسائل ردع أكدتها الولايات المتحدة علناً لمنع تمدد الصراع ودخول إيران ووكلائها وخاصة حزب الله في الحرب الجارية. ومن هذا المنطلق، قد يرى حزب الله أن انخراطه في الحرب قد يعني دفعه ثمناً باهظاً وتداعيات مدمرة على الحزب نفسه وليس فقط على مستوى الدولة اللبنانية، الأمر الذي سيعني خسارة كل ما حققه طيلة السنوات الماضية، علاوة على خسارة إيران أصلاً مهماً من أصولها الاستراتيجية في المنطقة.
4. الإسناد دون التورط: على الرغم من كل هذه الحسابات فإن حزب الله قد تبنى استراتيجية لدعم الفصائل الفلسطينية في حربها الجارية، وهي ما تمكن تسميتها باستراتيجية الإسناد دون التورط، وهي تقوم على إثارة التوترات على الجبهة الشمالية لإسرائيل من خلال الهجمات على أهداف عسكرية إسرائيلية أو أراضي فضاء أو القيام بعمليات تسلل على طول الحدود بإعلان الحزب مسؤوليته المباشرة عنها فضلاً عن السماح لأجنحة الفصائل الفلسطينية في لبنان بالقيام بعمليات استهداف وتسلل دون أن يتورط الحزب في المسؤولية، بما يؤدي إلى أن تعزز القوات الإسرائيلية انتشارها العسكري في الجبهة الشمالية، ومن ثم تخفيف الضغط عن قطاع غزة، وتشتيت الجهود العسكرية والاستخبارية الإسرائيلية. ذلك بالتوازي مع جهود بقية الفصائل الموالية لإيران وخاصة في العراق باستهداف القواعد الأمريكية وكذلك الحوثيين بإطلاق صواريخ ومسيرات باتجاه إسرائيل، بما يمكن أن يشكل ردعاً مضاداً للردع الأمريكي، ويسهم في الوقت ذاته في عدم اتساع دائرة الصراع التي قد تمثل مصلحة استراتيجية لكل من إيران والولايات المتحدة في هذا التوقيت رغم ما قد يُرى من تصريحات علنية مخالفة لذلك.
5. ترقب التطور: ربما يمثل ترقب تطور مسار عملية السيوف الحديدية الإسرائيلية خلال المرحلة المقبلة أحد الحسابات المهمة لدى كل من إيران وحزب الله فيما يتعلق باشتراك الحزب في الحرب؛ إذ ينظر كلاهما إلى ما قد تفضي إليه هذه المعركة ونهايتها، فإذا انتهت نهاية تقليدية من حيث استمرار القصف على قطاع غزة وإضعاف قدرات حركة حماس في القطاع ولو بشكل كبير للغاية فإن الأمر حينها لن يستدعي تحمل التكلفة الكبيرة لاشتراك حزب الله في الحرب. ولكن إذا تطور مسار العملية العسكرية لتحقيق ما تؤكد القيادات العسكرية الإسرائيلية أنه الهدف من الحرب وهو القضاء التام على حركة حماس فحينها قد تُقرر إيران إشراك حزب الله في المعركة لما تمثله حركة حماس وكذلك حركة الجهاد الإسلامي من أصول مهمة للاستراتيجية الإيرانية في المنطقة على الرغم من كونهما ليسا وكيلين بالمعنى التقليدي لإيران مثل بقية الفصائل أو الجماعات المسلحة الموالية لها؛ إذ يحقق الدعم الإيراني لحركتي حماس والجهاد الإسلامي في فلسطين مجموعة من الأهداف الاستراتيجية التي تخدم الركائز الأيديولوجية لإيران وأهدافها الإقليمية؛ إذ يمثل هذا الدعم تطبيقاً لشعارات الثورة الإسلامية التي تمحورت حول العدل والمساواة والحرية ونصرة المستضعفين في كل مكان ومواجهة القوى الاستكبارية، وهو ما يتيح لها فضاءات تمددية انطلاقاً من أن فلسطين أيديولوجية في حد ذاتها تلتف حولها مختلف المواقف وتستغلها إيران في الترويج لها.
وفي الختام، ما يزال من المبكر الجزم بإمكانية انخراط حزب الله بشكل فعلي في الحرب وتمددها إلى صراع إقليمي من عدمه، انطلاقاً من حسابات المشاركة في الحرب سواءً تلك المتعلقة بحزب الله منفرداً أم المرتبطة بشكل أو بآخر بإيران، والتي تجمع على أنه ليس من المصلحة على المديين المتوسط والبعيد أن تتمدد أطر الصراع الجاري إلى حرب إقليمية شاملة. ويمكن القول إنه بناءً على هذه الحسابات المعقدة سيكون من مصلحة حزب الله ألا ينخرط في هذه الحرب بشكل فعلي ومباشر، وإذا ما تطلبت التطورات الميدانية المقبلة أن ينخرط الحزب فإنه سيظل حريصاً على أن يكون تصعيده مناسباً ومتدرجاً وفي حدوده المنضبطة ضمن معادلة الاشتباك القائمة لكي تبقى احتمالات عدم تطور المواجهة إلى حرب شاملة هي الأكثر ترجيحاً، وتظل فرص حزب الله قائمة لاستثمار تثبيته انتشاراً علنياً له في مناطق مزارع شبعا وكفر شوبا وعلى طول الخط الحدودي، بالعودة إلى ما قبل 2006، ليؤسس للمشهد التالي في الصراع.